الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتوكلين ، و صحابته الغر الميامين ، و علينا و على عباد الله الصالحين . أما بعد :
فإن من أبرز مظاهر غربة هذا الدين ، و التي لا تخفى على كل ذي عين ، انتشار الجهل بشكل مذهل مخيف في أوساط الأمة ، ليشمل قطاعاً عريضاً من أبنائها ، فقل من يسلم منه حتى و إن حمل أعلى الشهادات ، و تبوأ أكبر المناصب ، والجهل الذي أعنيه هو الجهل بأصول الدين و أسس العقيدة فضلاً عن فروع الشريعة و أحكامها، و لقد نتج من ذلكم الجهل المطبق المخيف ، خلل في عقائد كثير من الناس و تصوراتهم ، ووقعوا في خلط عجيب ، و تخبط مريب ، وتكاسلوا عن فهم التوحيد رغم أهميته و جلائه ووضوحه ، و إن شئت أن تتأكد مما أقول ، فسل أحدهم عن المعنى الحقيقي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله ؟ أو عن شروطها ونواقضها ؟ أو سله عن حقيقة التوكل على الله أو عن معنى الخوف والرجاء أوغيرها من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى ؟ ستجد أن الكثيرين متخبطون في إجاباتهم ، حيارى في ردودهم ، رغم أن هذه الأمور المهمة لا يسوغ جهلها من عامة الناس ، فضلاً عن مثقفيهم و خاصتهم ، فالخطأ في فهم هذه القضايا قد يفضي إلى الشرك الأكبر ، والذنب الذي لا يغفر ، و من هنا كان لزاماً تجلية هذه الأمور و توضيحها، نصحاً للأمة و معذرة إلى الله ، و اقتداءً بالأنبياء و المرسلين البادئين أقوامهم بقضايا التوحيد و أصول العقيدة .
ألا وإن من أهم القضايا التي يقع فيها الخلط والاضطراب : قضية التوكل .
فقد كثر المتوكلون على الملوك والآمراء و الوجهاء و الوزراء في قضاء حوائجهم، وكثر المتوكلون على الأطباء في شفاء مرضاهم ، كما كثر المتوكلون على الموتى والأولياء في تلبية مطالبهم ورغباتهم ، كما يحصل من عباد القبور في طول العالم الإسلامي وعرضه ، فما حقيقة التوكل؟ وما معناه ؟ وما أهميته و ما ثمرته ؟
هذا ما سنتناوله في هذه الرسالة والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
حقيقة التوكل هي : الاعتماد المطلق على الله تعالى في جميع الأمور من جلب المنافع و دفع المضار .
والتوكل عبادة عظيمة ؛ لا يجوز صرفها لغير الله الواحد القهار، فالمؤمن الصادق الموقن يتوكل على الله وحده في كل ما يأتي ويذر، فيتوكل عليه سبحانه في طلب الرزق و النصرة ،و في طلب الشفاء والعافية، و في دفع السوء والضر، ويعتقد جازماً أنه لا رازق إلا الله ، ولا معطي ولا مانع سوى الله ، أنه سبحانه الخالق المتصرف المدبر مالك الملك رب العالمين، وقد أمر الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه بإخلاص التوكل عليه سبحانه ، وصدق اللجأ إليه في أكثر من موضع من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله سبحانه : (( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) (الأحزاب: من الآية48) .
وقوله : (( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ )) (الفرقان: من الآية58) .
وقوله : (( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)) (النمل:79) .
بل إن الله تعالى جعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان فقال سبحانه : (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) (المائدة: من الآية23).
وقال الحكيم موسى عليه السلام : (( فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)) (يونس: من الآية84) .
نماذج من توكل الأنبياء
لقد عرض القرآن الكريم نماذج عظيمة مذهلة لتوكل الأنبياء المعظمين ، و الرسل المكرمين ، عليهم أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، و هم يواجهون أقوامهم السائرين في غيهم، التائهين في ضلالهم و فجورهم ، فهذا هود عليه الصلاة والسلام نذر نفسه للرسالة التي حمل إياها ، و الأمانة التي كلف بها ، فانبرى لقومه داعياً ناصحاً ، ومحذراً لهم و مشفقاً ،فما وجد منهم غير الكفر والفجور والسخرية ، والسب الغليظ ، بل إنهم ليزعمون أن آلهتهم و أوثانهم قد أصابته بشيء من عقابها ، و أذاقته لعنة من لعناتها : (( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ )) (هود:53 ، 54) .
وهنا يصرخ بهم هود صرخته المدوية ، صرخة المؤمن الواثق بربه ، المتوكل عليه سبحانه ، الساخر من حمقهم وغفلتهم، المتحدي لهم ولأوثانهم أجمعين : (( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (هود:56،55) .
وأما إبراهيم عليه الصلاة و السلام فقد وقف أمام عناد أبيه و قومه ، وقفة المؤمن الواثق المطمئن ، فأخذ يحاج قومه باللين والرفق و الحجة و البرهان ، فما وجد إلا رؤوساً غادرتها عقولها، وقلوباً تمكن منها الشرك أيما تمكن ، وتعلق أولئك الوثنيون بأصنامهم وأمجادهم التي تهاوت واحداً واحدا ؛ تحت مطارق إبراهيم ، لا شلت يمينه، عندها أجمع المشركون أمرهم ، و مكروا مكرهم ، وأوقدوا ناراً عظيمة ، جمعوا حطبها شهراً ، وأشعلوا فتيلها دهراً ، وحملوا الخليل على المنجنيق مقيداً، ليقذفوه من بعيد ، واجتمع الملأ ينظرون، والناس يشتمون، فلما أيقن إبراهيم من إلقاءه في النار، ما أصابه الجزع، ولا اعتراه خوف، وإنما قال كلمته العظيمة : حسبي الله و نعم الوكيل .
كلمة لا يقولها إلا المؤمنون، ولا يلهج بها إلا المتوكلون الصادقون ، فلما توكل على الله كفاه و لما صدق مع الله أنقذه ونجاه (( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)) (الانبياء:69 ، 70) .
وأما إمام المتوكلين وقائد الغر المحجلين محمد عليه الصلاة و السلام فسيرته ملأى بأعاجيب من توكله، وعظيم يقينه بالله تعالى ، فقد خرج مهاجراً مع أبي بكر رضي الله عنه ، فدخلا الغار مختبئين وحام المشركون حول باب الغار، ووقفوا على بابه تكاد قلوبهم تميز من الغيظ على محمد وصاحبه ، فخشي الصديق رضي الله عنه على رسول الله r أن يُمس بأذى فقال : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فقال r : بكل هدوء و اطمئنان، وبلغة المتوكل على ربه، المعتمد على مولاه : (( لا تحزن إن الله معنا )) [1] .
وفي حمراء الأسد ، جمع المشركون جموعهم ، و حشدوا حشودهم لقتال النبي r وأصحابه ، فخرج r و أصحابه بكل شجاعة و اقتدار ، و بكل عزيمة و إصدار ، لمواجهة الجموع المتربصة ، و الجنود المكتظة المزدحمة ، متوكلين على الله وحده ، طالبين المدد منه سبحانه : ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) (آل عمران:173، 174) .
قال ابن عباس رضي الله عنه : حسبنا الله و نعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد عليه السلام حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم .
الجمع بين التوكل وفعل الأسباب
التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب ، بل إن الأخذ بها من صدق التوكل ، وصحة الدين ، وسلامة المعتقد ، وقوة اليقين ، لكن البلاء كل البلاء ، والشر كل الشر، هو الاعتماد على الأسباب وحدها ، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه ، فالاعتماد على الأسباب وحدها خلل في الدين ، وترك الأخذ بالأسباب خلل في العقل ، وأنا أضرب لذلك مثالاً :
فالذي يريد الأولاد والذرية لا بد له من فعل الأسباب من الزواج والنكاح ، ثم التوكل على الله بعد ذلك في حصول الولد ، ولا يعتمد على السبب في حصول مقصوده، فإن ذلك نقص في دينه ، وخلل في عقيدته و إيمانه ، وأما الذي يريد الأولاد والذرية ، ثم يجلس في بيته متكئاً ، من غير زواج و لا نكاح ، فلا نتردد في جنونه وحمقه وغفلته وسذاجته، وكذلك المزارع في مزرعته ، لا بد أن يصلح تربتها ، ويبذر البذر الجيد في وقته ، ثم يتعهد مزرعته بالسقي والرعاية ، و بعد ذلك يتوكل على الله تعالى في نماء الأشجار ، وحصد الحبوب والثمار ، أما إن تركها صحراء قاحلة ، وجرداء متصدعة ، لم يهتم بحرثها ولا زرعها ، وجلس في بيته و قال : إني متوكل على الله ، فهو أجهل من حمار أهله ، سفيه أرعن ، أحمق مغفل. والتوكل على الله لا ينافي بذل الأسباب ، في طلب المعيشة ، وتحصيل الرزق ، فالكسل والخمول لا مكان له في حياتنا ، فنحن أمة البذل والعطاء ، والجهد والعمل ، لم نعهد السماء تمطر ذهباً ولا فضة ، ويوم أن تكاسلنا وتواكلنا ، أصبحنا عالة على الأمم ، تصنع لنا غذائنا ، وتنسج لنا لباسنا ، وتسوقنا بها إلى الهاوية ، و قومنا لا يشعرون ، و إمام المتوكلين rمع عظيم توكله ، و صدق يقينه بالله تعالى ، كان يأخذ بالأسباب ، و لا يعتمد عليها وحدها ، بل يعتمد على الله الواحد الأحد، فقد كان في حروبه الطويلة ، لا يخوض معركة حتى يعد لها عدتها ، و يهيئ لها أسبابها ، ثم يرفع يديه إلى السماء ((اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم )) [2] .
أقسام التوكل
ينقسم التوكل إلى أربعة أقسام ، فانتبه لها جيداً حتى لا تزل قدمك .
القسم الأول : فهو التوكل على الله تعالى في جميع الأمور، من جلب المنافع ، ودفع الضار ، و هذا القسم هو شرط من شروط الإيمان و صحته .
القسم الثاني : فهو التوكل على المخلوقين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، كإنزال المطر ، أو شفاء المرضى ، أو تحقيق النصر ، أو غير ذلك مما هو من خصائص الربوبية، فهذا شرك أكبر ، يستوجب الخلود في النار أبد الآباد و العياذ بالله .
القسم الثالث : التوكل على المخلوقين ؛ كالأمراء و السلاطين و الوجهاء و المسؤولين فيما أقدرهم الله عليه من دفع الأذى و نحوه ، و هذا شرك أصغر ، ينافي كمال التوحيد ، و ينقص درجته ؛ لأنه اعتماد على الأشخاص و المخلوقين ، إذ أن التوكل الخاص يجب أن يكون على الله وحده لا شريك له .
القسم الرابع : فهو توكيل إنسان للقيام ببعض المعاملات نيابة عنك ، من بيع و شراء و نحو ذلك ، فهذا أمر جائز ، ولكن الأولى أن لا تقول : توكلت على فلان ، و إنما وكلت فلاناً في قضاء حاجتي كذا وكذا؛ لأن المسلم يظل في جميع الأموار ، معتمداً على الله وحده ، متوكلاً عليه سبحانه.
الحاجة إلى التوكل على الله تعالى
أخي الكريم : إننا بحاجة جد ماسة ، إلى العناية بهذا الأصل العظيم ، و هذه العبادة المهملة المضيعة - أعني التوكل على الله تعالى - فالتوكل عليه سبحانه ، كفيل بتصحيح أوضاعنا ، وانتشالنا من تخلفنا و جمودنا، و تحقيق النصر على أعدائنا و خصومنا فالله تعالى يقول (( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه)) (الطلاق: 3) .
و التوكل على الله جل جلاله و تقدست أسماؤه ، تحتاجه الأمة كلها على كافة المستويات ، من القمة إلى القاع .
ـ فالحاكم المسلم : محتاج إلى صدق التوكل على الله تعالى ، و هو يواجه التحديات المحيطة من كل جانب ، و الأخطار المحدقة من كل اتجاه ، و هو محتاج إلى صدق التوكل على الله ، و هو يواجه الكفرة و الأعداء بكل مكرهم و خبثهم و كيدهم ، و بكل تخويفهم و تهديدهم ، و محتاج إلى صدق التوكل على الله و هو يواجه المرجفين في الأرض ، و المنافقين المندسين في الصفوف ، يزينون الباطل و يلمعونه ، و يمكرون المكر الخبيث ، و يحتاج إلى التوكل على الله تعالى في محاربة أعداء الإسلام ، و جحافل الكفر و البغي ، فإن النصر إنما ينزل من السماء بصدق التوكل، و حرارة الدعاء ؛ لا بكثرة عدد و لا عدة (( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)) (التوبة: من الآية25) .
ـ والتوكل على الله يحتاجه العالم الرباني : حين يُحتاج إلى كلمته العادلة الفاصلة في مجريات الأمور و الأحداث ، و عند حلول الفتن و النكبات ، و يحتاج إلى التوكل على الله حين تشرأب أعناق الأمة منتظرة فتاويه في دقائق الأمور و عظمائها ، فيقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم .
ـ و الداعية المسلم : محتاج إلى التوكل على الله تعالى ، أياً كان موقعه ، مدرساً كان أو موظفاً ، خطيباً أو مسؤولاً ، فالدعوة طريق شاق طويل ، تحتاج إلى صدق اللجأ إلى الله ، و حسن التوكل عليه سبحانه، فالمتربصون بالدعوة كثر لا كثرهم الله ، و الواقفون في طريقها متوافرون في كل مكان و زمان .
ـ و التوكل على الله تعالى يحتاجه رجل الحسبة ، و هو يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يقطع دابر الفساد غير هياب و لا وجل ، معتمداً على الله وحده ، طالباً العون و التوفيق منه سبحانه ، متبراً من حوله و قوة نفسه .
و بالجملة فالتوكل يحتاجه كل من رضي بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد نبياً . [center]