التصور السائد كان يطرح عالما بغير نظام أسباب محكم، ولكنه لم يكن عالم بغير نظام سلطة محكم. فهذا العالم محكوم بشكل تفصيلي بإرادة الله المباشرة للعالم بحيث يكون التعامل مع العالم تعاملا مباشرا مع الله. أحيانا ـ أو ربما كثيرا ـ نجد تصورا لعالم محكوم بكائنات غير محسوسة إضافة لإرادة الله. نظام السلطة هذا الذي يحكم العالم هو ما قصدته بـ"عالم الأرواح". تصوّر العالم بهذا الشكل لم يكن فقط وليد جهل علمي، ولكن وليد حاجة نفسية عميقة. وهذا ما يفسر استمراره لفترة طويلة جدا عبر التاريخ، وما يفسر أيضا استمراره إلى اليوم بالرغم من التطوّرات العلمية المختلفة التي نشهدها. فأكثر ما كان يخيف الإنسان هي حالة الفوضى وعدم الأمان. وفي عالم مليء بالأحداث الطبيعية والإنسانية الخارجة عن التوقّع والسيطرة كان مفيدا ومريحا جعل النظام والأمان في يدي الله وكائنات أخرى مهيمنة ومتسلطة على كل شيء. لأنه في هذه الحالة يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من الفوضى وعدم الأمان بواسطة الله أو الكائنات. فعندما يصبح كل فعل من أفعال العالم هو نفسه فعل لله أو فعل لسلطات لغيبية، فإن علاقتنا بالعالم تتحول وتصبح علاقة مع تلك السلطات التي تهيمن عليه. وحينها تصير علاقتنا بالعالم علاقة مواجهة لتلك السلطات أو خضوع لها أو اللعب على الصراعات بينها كل ذلك وفق الأشكال المختلفة لتلك التصورات بين مجتمع وآخر. ولكن مع كافة الاختلافات بين تلك التصورات، إلا أن جوهر الأمر يكاد يكون ثابتا بين كل المجتمعات. وهو أن تعاملنا مع العالم ليس تعاملاً مع كائن غير واع وغير مريد وإنما هو تعامل مع إرادة حية. وحياتنا تمضي في فلك عالم آخر موازي لعالمنا فيه إرادة أو إرادات تتجلى في عالمنا من خلال التفاصيل اليومية التي نراها. لقد تم منح هذا العالم روحاً.
كما قلت كان هناك اختلافات كثيرة في وصف ذلك العالم الموازي الذي يتجلى في عالمنا. فهل إرادة الله هي المهيمنة بشكل مطلق أم هناك إرادات تزاحم إرادته؟ وفي حال كون إرادته هي المهيمنة، فهل يتصرف من خلال كائنات أخرى أو بشكل مباشر؟ وفي حال إنه يتصرف من خلال كائنات أخرى، فهل لها إرادة ووعي أم أنها مجرد وسيط ينقل الإرادة من مستوى إلى آخر؟ وما دور الكائنات الأخرى الواعية؟ وهل تتمرد على الله أم لا؟ وهل يمكن أن تتصرف باستقلال أم لا؟ فهذه الأسئلة وغيرها تحاول رسم خريطة القوى في ذلك العالم وبحسب التنوع الهائل في الإجابة عليها تنوعت التصورات أو خرائط عالم الأرواح. عالم فيه الله والملائكة والشياطين وأرواح الأموات وأرواح الأحياء... قوى لها مراتب مختلفة من القوة ومساحة النفوذ وأيضا لها مواقع مختلفة في ساحة التنافس والصراع بين عالم الأرواح هذا.
ثم هناك اختلافات أخرى كثيرة حول الكيفية التي يمكن من خلالها بناء علاقة مع ذلك العالم بين عبادة ودعاء وتضحية وسحر وتمائم وألفاظ مركبة... إلخ من الوسائل المنتشرة بين المجتمعات المختلفة في بناء علاقة مع عالم الأرواح. تصورات متعددة حسب مجتمعها ولكنها في النهاية وضعت عالماً غير منظور واعتبرت أن الوصول إليه والتوسط من خلاله والاندماج معه والعيش فيه سيؤدي إلى السيطرة على عشوائية العالم والعيش في أمان من أخطاره المتعددة.
خامساً: السُلطة الروحية
الإيمان بعالم الأرواح وروح العالم كان له أثر كبير على هيكل السلطة في حياتنا اليومية. فكما نرفع من شأن من لديه حظوة لدى صاحب مال أو جاه، فإننا كذلك رفعنا مِن شأن من لديه حظوة في عالم الأرواح. بل أكثر من مجرد "رفع شأن" لأنه متصل بعالم السلطة غير المحدودة. فذلك عالم يمكن للكلمة الصادرة عنه أن تغير أوضاع الجبال فضلا عن أوضاع حياة وبالتالي فمن يتصل به سيكون لديه بعض سلطة ذلك العالم. ولنفكر فقط في نظرتنا إلى شيخ يعالج بالتميمة وإلى طبيب سرطان. الأول حوله هالة والثاني قد نحترمه في أحسن الأحوال إذا احتجنا إليه أو إذا كان مشهوراً. شيخ التمائم متصل بعالم الأرواح وبالتالي يملك القدرة على أن يعمل أي شيء من أي شيء. ولذلك فهو يمثل لنا حاجة دائمة وشاملة وخطرة أيضاً. أما طبيبنا المسكين فلا يحتاجه إلا من لديه السرطان، وحتى ذلك المريض فإنه ينظر إليه على أنه شخص بديه علاقة مع مجموعة من المعارف. الطبيب تِقني لديه قدرة فنية على معالجة شيء مُحدد. ولكن ليس في يده ما في يد ذلك الشيخ. الطبيب مهما برع فإنه لا يملك علاقة مع عالم الأرواح.
وهاتان النظرتان لشيخ التميمة ولطبيب السرطان تعكسان ثنائية نعيشها. فأحيانا نتصرف أو نفكر في العالم وكأنه عالم يسوده نظام الأسباب. أي عالم لا يمكن لأي شيء أن يحصل من أي شيء. عالم لا يعطي للسبب أكثر من نطاق محدد. وبالتالي أحيانا نعيش في عالم لا يسمح لأحد أن يكون غير محدود في قدرته. طبيب السرطان مهما برع فإنه لن يستطيع إلا معالجة السرطان. وأدويته لن تستطيع إلا معالجة السرطان. ولكن أحيانا نفكر في العالم وكأنه عالم غير سببي. عالم يكون أي شيء فيه يأتي من أي شيء. وللمقارنة فحبة البنادول وفق قوعد عالم الأسباب لا يمكنها إلا أن تؤدي إلى نتائج محددة. لن تعالج الصرع مثلا. ولن تعالج الاكتئاب. ولن تحل المشاكل الزوجية. ولكن نفث شيخ التميمة يمكن أن يعالج كل شيء لأنه متصل بعالم الأرواح التي لديها قدرة لا محدودة. وبالتالي فإننا لما نفكر في العالم وكأنه عالم الأرواح فإننا نعطي لمن يملك القدرة على التصرف فيه مكانة وهيبة. وكيف لا والشيخ يمكنه أن يعالج الصداع والعلاقة الزوجية الفاشلة والغباء وضيق الحال المادي والفشل المهني والمنافسة السياسية والسحر والعين وتلبس الجن!! هل يمكن لأينشتاين أو هوكنز أن يقوما بكل هذا؟! طبعاً لا! ولكن الشيخ أو الشامان أو الولي يمكنهم ذلك. المانترا والتميمة والإسم الأعظم وترتيبات الحروف يمكنها ذلك.
فكيف تؤثر تلك الثنائية على وعينا وعلى تجربتنا الروحية؟ وكيف تتأثر تجربة روحية تسعى للإحساس بالمطلق بواسطة ممارسات تم وضعها للاستفادة من القوة الخارقة الموجودة خلف حجب الغيب؟ وكيف تؤثر على علاقتنا بمن لديه القدرة على التواصل مع العالم الثاني؟
وفي موضوع السلطة الروحية فقد وجدنا اختلافات كثيرة بين المجتمعات. وهي اختلافات لا يمكن حصرها. بين من يحصر الاتصال بنا بالله، وبين من يجعل الاتصال مفتوحا بيننا وبين كافة عالم الأرواح. وبين من يؤمن بأن الاتصال بعالم الأرواح يحتاج إلى إنشاء من عالمنا إلى من يرى أن عالم الأرواح قد يتصل بنا ابتداءا. وبين من يرى أن لا تأثير لسوى الله من عالم الأرواح فينا وبين من يؤمن بأن كلها لها تأثير. وبين من يؤمن بأن تأثير عالم الأرواح مستقل عن الله، وبين من يرى أن تأثيرها هبة من الله، أو مقيّد من الله. وبين من يرى أنه ممكن لأي فرد منا التواصل مع عالم الأرواح. وبين يراه محصوراً في أفراد محددون. وبين من يرى أنه ممكن الاتصال مع كافة من في عالم الأرواح ومن يرى أنه لا يمكن إلا الاتصال ببعضها. والأكثر شيوعا كان الإيمان بشيء من احتكار التواصل مع عالم الأرواح. سواء حصر قدرة الاتصال بذلك العالم في أفراد محددين. أو حصر مساحة الاتصال في أفراد محددين. والاحتكار أمر طبيعي لأن له علاقة بالسلطة. والإيمان بأن الجميع قادر على التواصل مع الجميع يلغي مفهوم السلطة. ويلغي بالتالي مميزات من يدّعي تلك القدرة.
وبين من حصر التواصل بذلك العالم ضمن أفراد قلائل وجدنا ترتيبا هرميا بينهم بناء على قدرتهم على تحقيق ذلك الاتصال. وعلى ضوء هذا الاحتكار وما يليه من مقام للمتصل بذلك العالم وجدنا التصورات المختلفة حول النبوة، والكهانة، والإرشاد الروحي، والربوبية البشرية أحياناً. فالنبوة هي اتصال بذلك العالم ولكن في الإسلام مثلاً نجد أن هناك فصلاً بين دور النبوة وبين المقام بين البشر. فالاتصال من حيث هو لا يرفع مقام النبي فوق مقام البشرية، بل هو اتصال ضمن ذلك المقام. في حين نجد أديان أخرى ترفع مقام النبي إلى درجات عليا. وكذلك الكهنة في كثير من الأديان لهم حق حصري في الاتصال مما يمنحهم سلطة من نوع ما. هذا عن الاتصال بالله. ولكن هناك رؤى ترى إمكانية اتصال بعض الناس بغير الله. اتصال بالجن والملائكة والأرواح... إلخ.
ولا يبخل علينا التاريخ بالتوظيف السياسي لمن يملك القدرة على الوجود في حلقة التواصل هذه، والتي جعلت على قمة هرمها السياسي شخصية تملك ذلك الحق الحصري للتواصل مع عالم الغيب. ولكن الأكثر شيوعاً هو ترتيب المجتمع من خلال وجود تلك الشخصيات المميزة، وهذا شائع إلى اليوم. سواء اتصال إيجابي مثل اتصال الأولياء والشيوخ والمعالجين، أم اتصال سلبي مثل اتصال السحرة والمشعوذين.
سادساً: الطقوس والرؤى
تصور عالم الأرواح يؤثر كثيرا على التجربة الروحية ويجعل هدفها الأساسي هو تحقيق ذلك الاتصال بطريقة تخدم المتصلين. وكان هناك الكثير من الطرق التي تحقق هذا الاتصال بين العالمين. الرؤى كانت أحد أهم الوسائل. وهي تتميز في كونها قناة مفتوحة بين العالمين. قناة تسمح لعالم الأرواح الوصول إلينا ولعالم الإنسان الوصول إلى عالم الأرواح. والرؤى غالباً ما تأتي بلغة رمزية لا يفهمها إلا قلة من الناس. صور وأشكال وأشخاص وكلمات لا تعني شيء للفرد العادي، ولكنها تعني الكثير لمن يملك أسرار ذلك العالم ويفهم لغته.
إضافة للرؤى هناك الطقوس. ويتم تقديمها وكأنها طرق توصلنا لعالم الأرواح. لذلك فإنه لا يمكن لأي احد اقتراح طقس ما، بل لا بد من انتظاره من "الشيخ" أو "الولي" أو "الشامان" أو "الكاهن" إلخ. فهم وحدهم مؤهلون لمعرفة تلك الطرق الخفية. وطرق الصوفية المختلفة في التراث الإسلامي هي تجسيد لهذا المبدأ. فهناك دهاليز توصلنا لعالم الأرواح، ولكن لا يعرف خريطة تلك الدهاليز إلا بعض الخواص. ولذلك فإننا لا نستغني عن الشيخ في إرشاده، ولا قول لنا في ما يحسن فعله، وليس لدينا أي معيار يمكن أن نقيس من خلاله صواب أو خطأ ما يقوله. فالخريطة غير قابلة للتداول ويستحيل الاطلاع عليها من الجميع.
خلاصة ما سبق هي أن أرضية الممارسة الروحية اليوم تقوم على الإيمان بـ: إله غير مفارق، وثنائية الطين الروح، ونفي العلاقات السببية، وبعالم الأرواح وبروح العالم، وبالسلطة روحية القادرة على الاتصال بعالم الأرواح، وبالطقوس والرؤى الموصلة إلى ذلك العالم. والعرض السابق محدود جداً في عمقه وشموله. ولكن مع ذلك فإن الذي يعيش حياة روحية غنية ضمن تلك الأطر سيجد أن ما قلته يتوافق مع أطراف من تجربته، وسيجد صلة واضحة بينه وبين المكتوب هنا. قد يختلف معي في الكثير مما قلته، ولكنه سيجد أنَّ الوصف ينطبق عليه بشكل من الأشكال. ولا شك أنه يجب علي ّأن أتعمق أكثر في هذا الجانب، وأن أتوسع وأزيد من ضرب الأمثلة، ولكن غرضي هنا هو الإشارة إلى بعض ما هو موجود.
وبمجرد الاطلاع على مثل هذه القضايا فإنه يمكن إدراك عمق المفارقة بين رؤيتين مختلفتين للحياة مما يؤدي إلى ما قلته أولاً من الرفض أو الانفصام. فمن يؤمن بنظام أسباب صارم، يعلم أن مجرد التفكير بعقلية سببية يعني أننا لن يمكننا التعامل مع مثل هذا العقل الروحي إلا بنوع من الانفصام الحاد أو العيش بين عقلين. ومن يرى أن المنامات والرؤى ما هي إلا تجليات للقدرة الإبداعية الخيالية عند الإنسان لن يعطيها قيمة أعلى من كونها تعبير فردي لتلك الملكة الكبيرة. سيرى أن عالم الخيال ليس إلا عالماً شخصياً بلا أي قيمة معرفية له. هو عالم شخصي لأنه يخص الفرد المتخيل، وليس مشتركاً يمكن الوصول إليه من قبل الجميع. ومن يؤمن بالفردية فلن يستطيع قبول السلطة الدينية الروحية الصارمة.
ما أريده من إثارة هذه القضايا هو التفكير في إمكانية الانتقال من روحانية تكاد تكون نوعاً من السحر ولكن سحراً عبر طريق مشروع، روحانية تسعى للحصول على أسرار القوة وعلى الحماية والسيطرة؛ إلى روحانية سببها حالة ذهنية يعيش فيها المرء وضعه الوجودي، إلى روحانية تتشكل من سعي فلسفي نحو الحقيقة وسعي سيكولوجي نحو تمثل تلك الحقيقة على مستوى الوعي، وسعي اجتماعي نحو تفعيل الآثار الأخلاقية لتمثل تلك الحقيقة.
أريد التفكير في الانتقال من روحانية تخلط بين الله وبين العالم مؤدية إلى خلق حالة سحرية للعالم إلى روحانية تحسم الفصل بين الله وبين العالم بحاجز الإمكان الوجودي.
من روحانية تعتمد على القدرة التخيلية، وعلى قبول المشاهدات الخيالية على أنها حقائق معرفية، وعلى تجارب فردية لا يتعدى أثرها إلى المجتمع، وعلى ضرورة قبول سلطة لآخر... إلى روحانية تعتمد على القدرة العقلية، وروحانية تعتمد على موضوعية معايير المعرفة، روحانية لها تأثير اجتماعي، وروحانية غير سلطوية.
من روحانية تبدأ من البحث عن الله. مقابل روحانية تبدأ من البحث عن الإنسان. بحث عن الإنسان في سياقين: سياق بحثه عن حل لسعادته وسياق تكوينه الذاتي. وما لم يتم النظر إلى الله من خلال ما يضيفه إلى السياقين فلن يمكن تصور علاقة عميقة مع الله تعالى.
من روحانية ترفض الشك لأن كل الأجوبة متوفرة من خلال الاتصال الذي لا يترك شيئا مجهولا إلى روحانية تعتبر أنّ الشك طبيعي ومتوقع لأن هناك أسئلة أكبر من قدرتنا على الإجابة عليها، ولأنه لا يصح كبت السؤال. وبالتالي يتم التعامل مع الشك على أنه صديق ملازم. صديق ملهم ومقلق في آن واحد.
من روحانية توفر الآمان للفرد عند الشيخ أو الشامان الذي يملك أسرار الوجود أو لدى الدعاء الذي يفك جميع الأزمات بألفاظه السحرية إلى روحانية توجِّه الأمان بالتواصل والتعامل والتعاطف مع الآخرين من البشر.
من روحانية تجعل التسليم للآخر أول شروط الإيمان إلى روحانية تجعل الوعي بعمقنا الإنساني هو أول الإيمان.
من روحانية الصراع بين الجسد والروح. وروحانية الصراع بين أنظمة أخلاقية مختلفة. بين نظام أخلاق "كم أملك" وبين نظام اخلاق "كيف أكون".
من روحانية الشيخ الذي يعرف نفسك أكثر من نفسك ولذلك عليك التسليم له إلى روحانية لا أحد يعرفك فيها أكثر من نفسك.
من روحانية يكتشفك الشيخ إلى روحانية تكتشف فيها نفسك من خلال محادثة آخرين لديهم خبرة.
من روحانية التسليم للشيخ إلى روحانية التسليم للعقل.
من روحانية العلاقة البراغماتية بين صاحب القوة وبين المحتاج لها إلى روحانية تفعيل الروح والأبعاد الأخلاقية فينا والوعي الوجودي لدينا.
من روحانية تفترض أن الدين يُشكِّل الوعي مقابل روحانية تفترض أن الوعي قبل الدين والدين يضيف إليه.
إن النوع الثاني من الروحانية هو ما أزعم أننا بحاجة إليه.[center]